
م.د. قاسم خضير عباس
يُعدّ الأمن والطمأنينة من القضايا الأساسية في إطار الأمن الإنساني، وقد شغلت مكانة بارزة في السياسة الدولية على مر العصور، فالحاجة إلى الأمن تُعدّ من الحاجات الفطرية التي تسعى الدول إلى تحقيقها لحماية الإنسان وضمان بقائه وكرامته، إذ يُعتبر الأمن جوهر الحياة ومحور الحفاظ على الكيان البشري.
ومع تطوّر المجتمعات البشرية، أخذ الإنسان يسعى لاكتساب مزيد من القوة والتأثير والهيمنة، من خلال السيطرة على الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية. ونتيجة لذلك، أصبحت الحاجة إلى توظيف كافة الإمكانات والقدرات أمراً ضرورياً، لا سيّما في ظل التغيّرات التكنولوجية المتسارعة.
يُفهم الأمن الإنساني على أنه حماية الفرد من التهديدات المباشرة وغير المباشرة، مع تلبية احتياجاته الأساسية، وتهيئة بيئة تضمن له الحياة بكرامة، ويشمل ذلك الأبعاد الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، البيئية، والثقافية، إضافة إلى حماية حقوق الإنسان، والحكم الرشيد، وضمان فرص التنمية الفردية.
في هذا السياق، يشكّل تطور الإنترنت والهيمنة الرقمية والذكاء الاصطناعي إحدى أبرز التحولات التي أعادت تشكيل عناصر القوة في النظام العالمي، فقد انتقلت أدوات التأثير من “القوة الصلبة” المعتمدة على الردع والعنف، إلى “القوة الناعمة” كما حدّدها جوزيف ناي، ثم إلى “القوة الذكية” التي تمزج بين الاثنين وتعتمد على أدوات مثل الجيوش الذكية، الصواريخ ذاتية التوجيه، والأسلحة المعزّزة بالذكاء الاصطناعي، وبالتالي، فإن الدول التي تمتلك هذه العناصر الحديثة تصبح أكثر قدرة على حماية أمنها الإنساني، في حين تظل الدول التي تفتقر إلى هذه الموارد عُرضة للتهديد.
وتُعد العلاقة بين الأمن الإنساني والقوة الذكية علاقة معقّدة، حيث إن امتلاك أدوات القوة الذكية يُعزّز من قدرة الأفراد والدول على الحفاظ على استقرارهم وأمنهم، كما أشار المفكر الأميركي “ألفين توفلر” في نظريته حول “القوة والمعرفة”، إلى أن: “من يمتلك المعرفة يتحكّم في التكنولوجيا، ومن يتحكم في التكنولوجيا يُسيطر على شبكات المعلومات، ومن يُسيطر على الشبكات يهيمن على الفضاء الإلكتروني، ومن يهيمن على الفضاء الإلكتروني يحكم العالم“.
من ناحية قانونية، يفتقر القانون الدولي حتى الآن إلى إطار واضح يحدّد مسؤوليات الدول أو الأفراد بشأن الانتهاكات المرتبطة باستخدام الأسلحة الذكية، مثل الطائرات المسيّرة والصواريخ الذكية، ويزداد هذا التحدي تعقيدًا في المناطق التي تعاني من ضعف أو غياب النظام القضائي، وهو ما يفتح المجال لممارسات خارجة عن القانون دون محاسبة.
وعلى الرغم من الفوائد الجمة التي جلبها عصر المعلومات والذكاء الاصطناعي، فقد أفرز هذا الواقع الجديد تحديات غير مسبوقة أمام الأمن الإنساني، أبرزها التداخل بين الهيمنة الرقمية، التي تشير إلى سيطرة كيانات معينة سواء دول، شركات، أو مجموعات على البنى التحتية التكنولوجية، ومنصات البيانات، وتدفّق المعلومات، ما يهدد الخصوصية ويؤدي إلى ما يُعرف بـ”استعمار البيانات”، والتلاعب بالرأي العام عبر الأخبار المضلّلة.
أما الذكاء الاصطناعي، فهو سلاح ذو حدّين. فبرغم دوره في تحسين التعليم، وتطوير الرعاية الصحية، والاستجابة للكوارث، ومعالجة الأزمات المعقدة، إلا أنه يساهم أيضًا في تعقيد البيئة الأمنية، من خلال إتاحة أدوات للحروب السيبرانية، ونُظم تسليح ذاتية التشغيل قد تتسبّب في تصعيد النزاعات خارج السيطرة البشرية.
ومن المهم الإشارة إلى أن الهيمنة الرقمية والذكاء الاصطناعي لا يعملان بشكل منفصل، بل يُشكّلان منظومة مترابطة ذات تأثير مزدوج. ومع ذلك، يمكن توجيه هذا التداخل نحو تعزيز الأمن الإنساني، من خلال توظيف الرقمنة العادلة في تحسين الخدمات العامة، خاصة في المناطق النائية، وترسيخ الشفافية الحكومية، وتمكين المجتمعات المحلية، إضافة إلى العمل على تقنين استخدام التكنولوجيا بما يحدّ من آثارها السلبية.
ختاماً، يواجه الكيان البشري تحدياً وجودياً يتمثل في كيفية خلق بيئة آمنة ومستقرة تُسخَّر فيها التكنولوجيا لخدمته لا للتحكم به. فلا يجب أن تتحول الأدوات الرقمية إلى وسائل قمع، بل إلى أدوات تحرر، ولتحقيق ذلك، لا بد من شراكة عالمية حقيقية تجمع بين الحكومات، والشركات، والمجتمعات، تضع حدوداً واضحة للانتهاكات، وتضمن أن يكون التقدّم الرقمي في خدمة حقوق الإنسان لا خصماً لها، فالأمن الإنساني لا يتحقق إلا بجعل التكنولوجيا وسيلة للحماية والتمكين، لا للهيمنة والسيطرة.