تنازع القوانين في المفاوضات التي تسبق إبرام الالتزامات التعاقدية الدولية
raghadabed333@gmail د.رغد عبد الامير مظلوم
اذ يميل اطراف التفاوض في الالتزامات التعاقدية الدولية بوجه عام إلى الانطلاق بعيدا عن القوانين الوطنية وقواعدها المقيدة، حيث يسود لديهم الاعتقاد ان ((اعمال القوانين الوطنية يقود إلى مشكلات لا نهاية لها، ويؤدي إلى اضطراب وزعزعة العلاقة التعاقدية التي جرى التفاوض فيها بحرية)). ومن ثم يحبذون اجراء مفاوضاتهم في مناخ كامل من الحرية.
إذ يقوم الأطراف المتعاقدين في هذه المرحلة بإبرام عقد في تلك المرحلة يسمى (بعقد التفاوض) يتم من خلاله بيان القانون الواجب التطبيق على ذلك العقد ، حيث نجد هذا الأمر واضحاً في المادة (1104) من المرسوم الجديد رقم 10 شباط لسنة 2016 المعدل لقانون العقود والنظريات العامة للالتزامات والاثبات الفرنسي ، اذ ركز في هذه المادة على مرحلة المفاوضات . وأشار المرسوم الجديد وبشكل محكم على ضرورة توافر حسن النية في مرحلة التفاوض على العقد إلى حين تنفيذه أي ان حسن النية لم يعد مقتصرا على تنفيذ العقد كما كان منصوصاً عليه قبل التعديل، وعليه فحسن النية اضحى واجبا في مرحلة المفاوضات والتي تسبق إبرام العقد وجعله أيضاً مسألة من مسائل النظام العام.
وبهذا الاجراء الذي سلكته فرنسا من خلال النص على المفاوضات في العقد بموجب المرسوم الجديد على سد النقص الذي كان يعتري اتفاقيات الاتحاد الأوربي فيما يتعلق بحسن النية في المفاوضات، نظرا لأهمية هذا المبدأ في المفاوضات كمبدأ عالمي عام. اذ نجد ان معهد توحيد القانون الخاص بروما لسنة 1994، الذي أصدر مجموعة من القواعد الموحدة التي تعني بتوحيد عقود التجارة الدولية. قد شدد على الالتزام بمبدأ حسن النية وجعله مبدأ عاماً يجب الالتزام به في الالتزامات التعاقدية الدولية كافة اذ نصت المادة (1) فقرة (7) على انه: ((يلتزم الأطراف باحترام مقتضيات حسن النية في العقود الدولية، ولا يستطيع الاطراف استبعاد هذا الالتزام أو التضييق من نطاقه)). وهذا دليل واضح على أهميته كمبدأ عام عالمي تلتزم به جميع دول الأطراف . ومبدأ حسن النية في المفاوضات يطرح مبدأ عاماً يلتزم المتعاقدين به في مرحلة المفاوضات ومرحلة ابرام العقد، فلم تعد الالتزامات التعاقدية الدولية ساحة لتنافر المصالح وتعارضها بل هي مؤسسة قانونية تخدم غاية اجتماعية واقتصادية، لذا يجب ان تبنى على المصالح المشتركة والثقة المتبادلة وحسن النية وليس مسألة نفسية بل لابد من ترجمته سلوكا سويا خلال عملية التفاوض. يبد أنه على فرض وجود تنظيم قانوني لعملية التفاوض، فأن أطراف تلك العملية سيلجؤون إلى تحديد ذلك التنظيم وجعل دورة احتياطي بتعظيم دور سلطان الإرادة وتفعيل قاعدة ( العقد شريعة المتعاقدين ) (pucta sunt servanda)، بحيث يقومون بأنفسهم بالتفاوض، فيستطيع كلا منهم بالتفاوض بطريقة التي يراها مناسبة للوصول إلى مقصده والفوز بالصفقة التعاقدية.
ونظرا لأهمية انتباه طرفي العقد إلى شرط القانون الواجب التطبيق على عقد المفاوضات، بحيث ينبغي النص عليه صراحة في صلب وثيقة عقد المفاوضات، أو يتفقان عليه في وثيقة مستقلة، أو حتى شفوياً عند رفع النزاع إلى القضاء. وهو اتفاق يمكن ان يتم حتى بعد انعقاد العقد. العقود كثيرة العدد قليلة القيمة ، مثل عقود التسوق عبر الحدود ، مشتريات السواح ، بيوع المواقع الالكترونية لاشباع رغبات الافراد ، اما العقود الدولية فهي العقود ذات القيمة الاقتصادية العابرة للحدود المقترنة بصفقات الاستيراد والتصدير بتوسط البنوك عبر الاعتمادات المستندية .أو قد تخضع للقانون الذي اتجهت اليه إرادة الأطراف الضمنية، وهي إرادة يستخلص القاضي أو المحكم من الملابسات وظروف الحال، وقد يكون هو قانون الدولة التي تجري فيها المفاوضات أو غيرها. أمّا في حالة غياب الاختيار الصريح فيخضع عقد المفاوضِات وحسب قول اغلب فقهاء القانون الدولي الخاص الى انه يجب أن يخضع عقد التفاوض الذي كان سيخضع له العقد النهائي لو كان العقد قد ابرم، وقد يدعم هذا القول، ان عقد المفاوضات، وان كان عقد تمهيدي أو تحضيري للعقد النهائي، وبالتالي يسري عليه قانون هذا العقد الأخير، عملا بقاعدة الفرع يتبع الأصل. غير ان هذا القول يتعذر قبوله، وذلك لعدة أسباب، منها انه قد يؤدي إلى الاخلال بالتوقعات المشروعة لطرفي التفاوض، لان قانون العقد النهائي لم يفكروا به في تلك المرحلة المتقدمة من لقائهم. ومنها التوصل إلى اتفاق حول إبرام العقد النهائي أمر احتمالي، وقد لا ينتج عن هذه المفاوضات إبرام للعقد النهائي، مما سيجعل حقوق طرفي التفاوض مبنية على أمرٍ غير مؤكد الوقوع وهو إبرام العقد النهائي وبالتالي معرفة القانون الواجب التطبيق.
وفي جميع الأحوال يكون للقاضي والمحكم الدور الفعال والمؤثر في تحديد القانون الواجب التطبيق على عقد المفاوضات في حالة غياب اختيار الأطراف لقانون يحكم عقد المفاوضات من خلال البحث عن القانون الأكثر صلة بالعقد ويكون ذلك من خلال تفعيل فكرة الأداء المميز أو إعطاء الاختصاص لقانون الدولة الأكثر صلة بالرابطة العقدية وتتسم هذه الفكرة بالمرونة؛ وذلك من خلال تحديد القانون الواجب التطبيق على الالتزامات التعاقدية الدولية لقانون الدولة الأوثق صلة به، أو قد يلجأ القاضي أو المحكم في حالة غياب الاختيار لضابط قانون بلد إبرام عقد المفاوضات، أو قانون الموطن المشترك لطرفي التفاوض ولا صعوبة إذا كان عقد التفاوض قد ابرم في دولة معنية، حيث يختص قانونه بحكمه. ومثل هذا الحكم لم يأخذ به المشرع العراقي ولم يتأثر به لحد الآن ؛ لأنه ما يزال طموح بعيد المنال . (فالاداء المميز) لا دور له في تحديد القانون الواجب التطبيق في المنهج التنازعي العراقي . وما يزال الاخذ به سابقاً لآوانه طالما كانت القواعد السافينية السائدة (مادة 25 مدني) كافية لحل مشكلات تنازع القوانين.