السيد عميد كلية القانون والعلوم السياسية ا. د خليفة أبراهيم عودة ينشر مقال حول تنازع اختصاص التحقيق الإداري بين القضاء والادارة
تنازع اختصاص التحقيق الإداري بين القضاء والإدارة
يُعدّ التحقيق الإداري الوسيلة الأساسيّة الّتي تُمكّن الإدارة من الوصول الى الحقيقة فيما يخص المخالفة الإدارية المنسوبة الى الموظف المنتسب إليها على الرغم من وجود صلاحية للإدارة (الرئيس الإداري الأعلى) في حالات محدّدة قانوناً وبعقوبات محدّدة لمعاقبة الموظف الّذي تراه مخالفاً، إلّا أنَّه تجري العادة في أنَّ يقوم الرئيس الإداري الأعلى بتشكيل لجان تحقيقيّة بشأن المخالفات الإداريّة الصادرة من الموظفين اثناء أداء أعمالهم أو بسببها، وتتبع هذه اللجان – التحقيقيّة – الاحكام والقواعد القانونيّة ذات العلاقة بعملية التبليغ والتكليف بالحضور والاستماع وتدوين الافادات للموظف المحال إليها والشهود وسائر الإجراءات الأخرى المتعلّقة بعمل اللجنة التحقيقيّة، وبعد انتهاء اللجنة من القيام بأعمالها توصي أمَّا بمعاقبة الموظف المحال إليها بإحدى العقوبات الانضباطيّة الّتي أشار إليها قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام العراقي رقم (١٤) لسنة (١٩٩١)، أو توصي بغلق التحقيق إذا ما ثبت لديها عدم وجود مقصريّة لدى الموظف المُحال إليها، مع العرض أنَّه في حال وجدت اللجنة أنَّ فعل الموظف يُشكِّل جريمة (كالرشوة والاختلاس والتزوير وغيرها) تقوم بإحالة الموظف إلى المحاكم المختصَّة ويُشكِّل ما سبق اخباراً للسلطات القضائيّة بشأن الفعل المنسوب إلى الموظف لإجراء التعقيبات القضائيّة اللازمة بحقه.
وقد اصدر مجلس القضاء الأعلى العراقي الموُقرّ/ رئاسة الاشراف القضائي الاعمام ذي العدد ( ش.أ ٣٤٥٤) بتاريخ (٦/٨/٢٠٢٣) المتضمن: امكانيّة محاكم التحقيق تشكيل فرق عمل لجمع المعلومات بحق المقصرين وتحديد أدوارهم في المخالفات الإداريّة والماليّة؛ وقد علّلت رئاسة الاشراف القضائيّة الموُقرّة اصدار هذا الاعمام بـ “ضرورات العمل القضائي”.
ويُثار السؤال في هذا الصدد، حول مدى نجاعة وقانونيّة تشكيل لجان قضائيّة تختص بجمع المعلومات المتعلّقة بالمخالفات الإداريّة والماليّة في دوائر الدولة العراقيّة؟
ابتداءً، إنَّ تشكيل إيّ لجنة يجب أن يجد سنده في القانون، وبخلاف ما سبق إنَّ أيّ توصيات تصدر من لجنة لمْ ينصْ القانون على تشكيلها تكون باطلة لا يمكن تنفيذها. وفي هذا الخصوص، فقد رسم قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام العراقي آلية تشكيل اللجان التحقيقيّة، إذ نصَّت المادة (١٠/ أوُّلاً) من هذا القانون على أنَّه: “على الوزير أو رئيس الدائرة تأليف لجنة تحقيقيّة من رئيس وعضوين من ذوي الخبرة على أن يكون أحدهم حاصلاً على شهادة جامعيّة أوليّة في القانون”.
وترتيباً على ما سبق، إنَّ تشكيل لجان تقصّي الحقائق عن المخالفات الإداريّة والماليّة في دوائر الدولة العراقيّة بالصورة الّتي سبق ذكرها لا سند له من القانون، وبالتالي، إنَّ أيّ توصيات تصدرها هذه اللجان لا يمكن تطبيقها لعدم وجود سند قانوني لتشكيلها من الأساس. زد على ذلك، إنَّ تشكيل هكذا لجان ربما يُثير مشاكل عمليّة بشأن احقية الموظف في التظلم من القرارات الّتي تتخذها هذه اللجان، إذ لا يمكن قبول أيّ تظلم يقدمه الأخير إلى مسؤوله المباشر على اعتبار أنَّه لمْ يقمْ بتشكيل هذه اللجنة، ما يفقد الموظف إحدى أهم الضمانات القانونيّة الّتي وضعها المُشرع في الدفاع عن نفسه، وهو ما نجده يتعارض مع حقوق الإنسان.
وقد يعترض البعض على وجهة النظر المتقدِّمة بالقول: أنَّ تشكيل لجان مهمتها البحث عن الحقائق تحت اشراف القضاء يُعتبر اجراء ناجع في مكافحة الفساد الإداري والمالي في ظل تأخر بعض الدوائر الرسمية في انجاز وحسم التحقيقات الإداريّة وتزويد محاكم التحقيق بما تطلبه من مستندات تخص هذا الموضوع.
إنَّ هذا الاعتراض – رغم أهميته – مرود من ناحيتين، الناحية الأولى: إنَّ جمع المعلومات عن المخالفات الإداريّة والماليّة أمر منوط بالإدارة، فهيَّ تُعتبر الجهة الأكثر قدرة على تحمل مسؤولية هكذا عمل بحكم خبرة موظفيها الاختصاص في نطاق أعمالهم، وبالنتيجة، إنَّ زج جهات خارجية في هذا الموضوع ربما يكون ذو أثر سلبي في كشف الحقائق؛ نظراً لعدم وجود لجنة لها خبرة في مجموعة من الاعمال لا متناهية. أمَّا الناحية الثانية: إنَّ قانون الادعاء العام رقم (٤٩) لسنة (٢٠١٧) اعطى للادعاء العام في المادة (٥/ أوُّلاً) الحق في إقامة الدعوى بالحق العام وقضايا الفساد المالي والإداري ومتابعتها. وبالتالي، إنَّ تفعيل دور الادعاء العام بشأن قضايا الفساد المالي والإداري يُعتبر اجراءً ضرورياً وناجعاً أكثر من اللجوء إلى تشكيل لجان ربما يُثار بشأنها مشكلات قانونيّة تكون سبّباً في افلات الفاسدين وسراق المال العام من العقاب سيما إذا اخذنا بنظر الاعتبار أنَّ هذا القانون (الادعاء العام) اعطى للادعاء العام الحق في مراقبة التحريات عن الجرائم وجمع الأدلة الّتي تلزم بالتحقيق فيها في ذات المادة المذكورة آنفاً. وفي حال عدم تعاون أيّ جهة اداريّة مع الجهات القضائيّة في التحقيقات المذكورة آنفاً فإنَّ ذلك يُشكّل مخالفة بحق من يتصدى لمسؤولية هذه الدائرة على اعتبار أنَّه يُعتبر أحد أعضاء الضبط القضائي سنداً للمادة (٣٩/٤) من قانون أصول المحاكمات الجزائيّة رقم (٢٣) لسنة (١٩٧١) وأنَّه يقوم بالأعمال المنوطة به (في حدود الجرائم الّتي تقع في دائرته) تحت اشراف الادعاء العام ويخضع لرقابته سنداً للمادة (٤٠) من ذات القانون. ناهيك عن أنَّ المادة (١٥) من قانون هيئة النزاهة والكسب غير المشروع رقم (٣٠) لسنة (٢٠١١) ألزمت جميع دوائر ومؤسسات الدولة العامَّة بتزويد الهيئة بما تطلبه من وثائق وأوليات ومعلومات تتعلّق بالقضية الّتي يُراد التحري أو التحقيق فيها، فضلاً عن ضرورة ابداء كل التعاون معها لتمكينها من أداء مهامها التحقيقيّة المنصوص عليها في القانون.
أ.د. خليفة إبراهيم عودة
عميد كليّة القانون والعلوم السياسية