مما لا شك فيه بان الموسيقى لعبت دورا كبيرا في ثقافة الشعوب وسعيها للتحرر ، فعندما يلتقي تحت جدار برلين قبل الوحدة الالمانية افراد من الجهتين الغربية والشرقية للاحتفال بعرس اصر العروسين على ان يقيماه تحت الجدار ويبدءوا باغان من التراث الالماني الامر الذي دفع الناس للتحشد تحت الجدار وعلى الجهتين ويتناوبوا الادوار بالمقاطع الغنائية ويتوحدوا عند لازمة الاغنية بصوت واحاسيس دفعت اغلب المحتشدين للعبور وفتح الجدار ، ويتفاعل الحرس على الجانب الشرقي متفرجا ولا يحرك ساكنا غير عاطفة جياشة وصلت الى بكاء بعضهم في حين تقضي الاوامر بفتح النار على من يحاول العبور من كلا الجانبين اليس ذلك فعل تحرري ودور في وحدة الثقافة ؟، وعندما جرى الحديث عن ثورة الغناء لدول البلطيق وسعي دول ( استونيا ولاتفيا وليتوانيا) للانفصال عن – الاتحاد السوفيتي – السابق حين شكل المواطنون من الدول الثلاث سلسلة بشرية وبطول 600 كم ربطت بين العواصم الثلاث (تالين ، وريجا ، وفيلينوس ) شارك فيها مليوني مواطن ينشدون اغاني الحرية لبلدانهم يد بيد لا يحملون سلاح باستثناء حناجرهم التي كانت تردد اناشيد تعبر عن حبهم لاوطانهم ، وحملت نبراتهم العذبة رسالة سلمية ولكنها كانت قوية بوجه الاتحاد السوفيتي الذي عجز عن الوقوف بوجهم فكانت اوائل الدول التي تحررت من القبضة الحديدية للسوفيت واذنت بانفراط عقد الاتحاد .
ان الغناء العربي لا ينفصل عن تكوين الثقافة التحررية ، إذ لعبت اغان سيد درويش دور في مقارعة الاحتلال البريطاني، ونغمات فيروز في بيان ماساة فلسطين والمشكلة اللبنانية ، ومنولوجات عزيز علي في هم العراق وفضخ ممارسات الفساد .
اننا لا نريد الاغنية التي تمجد الحكام وتصفهم بما لا يملكون ، ولا نريد ان نقلل من دور الاغنية في الترفيه لحاجة الإنسان اليه الا ان الغناء تحول اليوم الى موجة العولمة التي افسدت الاذواق وعبثت باللغة أيما عبث ، دون ان تنتبه بانها ترتكب جرما ثقافيا واجتماعيا في آن واحد ، إذ ان الترفيه له دور في النمط السلوكي للمجتمع ، وما دام الترفيه يحتاج الى اوقات فراغ فان أغلب الانحرافات السلوكية يرتكبها الفرد اثناء هذا الوقت الذي يحتاج فيه للترفيه الذي يسكن الروح والجسد وتلعب الموسيقى هذا الدور ، ولكن اغاني العولمة وموسيقاها التي تحسب حسابات اقتصادية بعيدة عن الحسابات اللامادية الأخرى قد ادت الى وصول الغناء العراقي الى غياب الهوية ، فاغنية اليوم اغنية سريعة تتماشى مع العصر السريع ومحشوة بثقافة البصر لتعبر عن تردي حال الثقافة في هذا المكون ( الموسيقى والغناء )، فلم يعد هناك مجال للصورة الشعرية في كلام الاغنية ولم تعد الجملة اللحنية بومضات وتشابك مقامات الامس وعذوبتها ، واصبح السائد هو القصة القصيرة والجملة اللحنية الثابتة من البداية الى النهاية فبتنا نعيش حالة الاغتراب الترفيهي المؤسس للانحراف لما تحمله الاغاني من ترف العيش والسيارة الفارهة والفتاة الجميلة ومشاهد تثير الغرائز لشباب عاطل عن العمل حالم بان يثرى بسرعة عصره مما يؤدي الى انحرافه .
قد يكون هذا المقال صرخة جيل تربى على الموسيقى الهادئة والكلمة الجميلة والشعور الراقي في زمن قد نتهم بالتقليدية بمعناها السلبي واننا لا نتماشى مع زمن العولمة السريع وما علينا الا نسير مع الموجة المعولمة ، ولكن اردنا ان نستحضر ونقول بان الموسيقى والغناء ثقافة وثقافة تحرر وابداع لانها تعتمد على عمل ابداعي كلمة ولحنا .