تداخل السلطة التقديرية والمقيدة في التأديب الانضباطي
م. حيدر نجيب أحمد فائق ahmed.haider2016@mail.ru
من المسائل المهمة التي يبحث ويحاول كل مخالف أو مرتكب لفعل مجرم هي محاولة التملص والإفلات من العقاب جزائيا أو إداريا أو البحث عن وسيلة وحجة يتمكن بها الشخص المعني المخالف من تخفيف العقاب والمسؤولية القانونية عن نفسه في مقابل السلطة المقيدة والتقديرية لمجالس التحقيق في تقدير العقوبة المناسبة المحددة، وتجنبا للإطالة ولمنح الفرصة لغيرنا من المختصين والباحثين للتوسع في البحث فسنقصر كلامنا في زوايا مساحة مقالنا المتواضع هذا على الجانب الإداري في الغالب وما يمكن سحبه وتطبيقه من قواعد عامة وآراء للفقه وأحكام القضاء في إطار التشديد وتقدير العقوبة الانضباطية المتناسبة مع الفعل المخالف وحالات التخفيف من آثارها على الموظف وفقا لاعتبارات وأسباب منطقية مقبولة على أساس السلطة التقديرية الممنوحة قانونا لجهة التحقيق الإداري، فموضوع التشديد والتخفيف تبعا لسلطة التحقيق وردت عنه كتابات وإشارات تتطلب تسليط الضوء عليها من الناحية الفقهية والتشريعية والقضائية بالمقارنة التشريعات الإدارية العراقية النافذة لأهمية هذا الجانب نظريا وعمليا في وقتنا الحاضر، وهذا ما يجسد التداخل المعني لعنوان مقالنا هنا، بل أحيانا نجد الخلط بين جوانب التقييد والتقدير في الأبحاث والدراسات عند فرض العقوبات الانضباطية والإجراءات المتبعة لهذا العمل الإداري والذي يفترض به التوافق التام مع محتوى مبدأ المشروعية القانونية لسيادة القانون، وهذا ما يتطلب التمييز ولو بشكل مختصر كمحاولة نعتقد بفائدتها الإيجابية لتوضيح أوجه الاستقلال بين السلطتين في فرض العقوبة التأديبية المناسبة، وإن التأكيد يأتي على السلطة المقيدة في فرض العقوبة تخوفا من مخالفة المشروعية القانونية للتصرفات الإدارية بعيدا عن التقديرية ومن دون الدخول في مدى تحقق الأسباب والحالات التي تسمح بالتخفيف العقابي مما يعكس السلطة التقديرية وتطبيق روح القانون الإداري تحديدا والذي يركز على جوانب كثيرة من بينها تحقيق العدالة القانونية الإدارية الانضباطية.
بداية لابد من التذكير أن البحث في السلطة التقديرية والمقيدة والتداخل بينها واسع جدا في تقييم صحة ومشروعية تصرفات الإدارة لعامة ونخص بذلك التأديب الإداري، إلا أن ما يمكن التركيز عليه هو ما جاء به من تقييد تشريعي اداري لسطات الإدارة الانضباطية في اختيار العقوبة المناسبة وفقا لجسامة المخالفة الإدارية في جميع جوانبها وآثارها القانونية، فالمشرع العراقي في أحكام قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام لاقم 14 لسنة 1991 المعدل قيد سلطة الإدارة باختيار احدى العقوبات الانضباطية المحددة على سبيل الحصر ضمن نص المادة 8 من القانون السابق في التحديد والوصف وهي (لفت النظر، الإنذار، قطع راتب، التوبيخ، انقاص الراتب، تنزيل الدرجة، الفصل، العزل)، فليس للإدارة وتحديدا المجلس التحقيقي استنباط أو اجتهاد بعقوبة غير ما ذكر وفي نص المادة أعلاه أو بخلاف آثارها القانونية التي يجب على الإدارة الالتزام بجسامة العقوبة وفقا لآثارها المرافقة لفرضها بالترتيب من الأخف للأشد وفيما عدا ما يترتب على العقوبة الانضباطية من اثار أخرى جزائية أو مدنية وهي مواضيع تدخل في اطار أحكام قوانين أخرى لا نتطرق اليها في الوقت الحاضر، وبناء على ذلك نجد أن سلطة الإدارة مقيدة تماما بحكم النص القانوني صراحة بنوع القرار العقابي الانضباطي وهدفه وإجراءاته وأسبابه والظروف والملابسات المحيطة به وغيرها من أحوال وأوضاع قانونية داخلة في مفهوم التقييد التشريعي في تصرفات الإدارة العامة، وبالمقابل نجد مظاهر ثابتة بالأحكام القانونية للسلطة التقديرية التي تدخل في جانب فرض العقوبة الانضباطية وتتصل بها بل وتتداخل مع السلطة المقيدة على النحو السابق خلال جلسات التحقيق الانضباطي، ولعل من ابرز مظاهر السلطة التقديرية للإدارة محل النظر هي ما جاءت به النصوص القانونية الانضباطية من تحديد تمثيلي لا حصري لواجبات الموظف العام الإيجابية والمحظورات السلبية وواجب الابتعاد عنها وتجنبها قطعا وما يأتي بمقامها أو مشابه لها بحسب تكييف وتقدير الإدارة العامة أو اللجنة التحقيقية، فمن المسلم به نظريا وعمليا ولا يخفى على كثير من أصحاب الاختصاص والباحثين إن لجنة التحقيق المختصة تتبع إجراءات وأعمال شكلية وموضوعية لا يمكن تجاوزها لتحقيق مشروعية فرض العقوبة الانضباطية للتقييد القانوني الوارد في اتباع أساليب التحقيق الأصولية وموجبات صحته مثل سماع وتدوين أقوال الموظف والشهود والاطلاع على المستندات وغير ذلك، ولها في نفس هذا الاتجاه أيضا قدر من الحرية والتقدير في تفاصيل ما يستتبع ذلك لما لم يرد به حكم لفظي حرفيا بمقتضى نفس نص المادة 10 من نفس القانون السابق وبما تقضي به القوانين الأخرى ذات العلاقة المسموح بتطبيقها في اطار التحقيق بأذن وترخيص تشريعي نص عليه نفس القانون الإداري الانضباطي السابق، ويضاف لما تقدم أن البحث في أسباب ودوافع ارتكاب المخالفة محل التحقيق هي من المسائل الضرورية برأينا والتي يجب مراعاتها خلال التحقيق الإداري، فلكل فعل سيقابله رد فعل يؤدي للنتيجة محل النظر في التحقيق بوصفها مخالفة، إلا أن الأسباب والحالات التي دفعت الموظف للوقوع بالمخالفة لا تعفيه من العقاب الانضباطي سواء كان الدافع متعمد أم غير متعمد لأن المخالفة قد تحققت فعلا مما سبب ضرر اداري أو مادي وغيرها من اثار أخرى، ويشير الباحثين والمختصين إلى مجموعة من الحالات التي تمثل أسباب ارتكاب المخالفة بشكل مباشر أو غير مباشر والتي يجب ان تؤخذ بنظر الاعتبار في التحقيق وما يترتب على ذلك من تخفيف للعقوبة وهو ما تؤيده أحكام القضاء المختص على أساس السلطة التقديرية للإدارة مع عدم الإعفاء المطلق من انزال العقوبة الانضباطية المناسبة وفقا للتحديد الحصري والتقييد التشريعي في هذا الجانب، وهو ما نؤيده ونتفق معه نظريا وعمليا، ولا نقصد بذلك حالات الإعفاء من العقوبة بالأصل وفقا للظروف والأحوال القانونية الثابتة، ولعل من ابرز مظاهر وحالات التخفيف في فرض العقوبة وتقديرها تتلخص بالاستفزاز والاعتداد بالحالة النفسية عدا المرض العقلي والنفسي الثابت ووجود خلل ونقص وعدم دراية ومعرفة من الموظف لأصول ممارسة العمل المنوط به اليه وتغيير وصف الجريمة قضائيا من عمدية إلى غير عمدية وحسن السلوك والنية وانتفاء الضرر المالي عن المخالفة نفسها وتعرض الموظف إلى الضغط أو الإكراه الأدبي من الغير برغم تنفيذه لأوامر وتعليمات الرئيس الإداري وتنازل المشتكي عن الشكوى ضد الموظف وغير ذلك ليس بقليل من الحالات التي لم نجد لها نص صريح في القانون الانضباطي الإداري العراقي السابق، وفي كل ما سبق تتجسد السلطة التقديرية للإدارة بالأخذ ومراعاة الأحوال والأسباب السابقة في تمثيلها أو بخلاف ذلك، وبمنظورنا القانوني نضيف أن هذه الحالات يمكن الاحتجاج بها في الطعون الإدارية الانضباطية أمام المحاكم القضائية الإدارية المختصة اذا ما كانت متحققة فعلا وتم إهمالها من اللجنة التحقيقية تعسفا منها طالما كان التشريع المعني لم ينص عليها أو يمنع الأخذ بها صراحة وباعتراف مضمون الأحكام القضائية على وجود هذه الحالات للتخفيف من العقوبة وما يذهب اليه الفقه القانوني بالاتفاق أيضا، وبمقابل هذا نجد حالات أخرى يتمخض عن تحققها ضرورة التشديد بالعقوبة الانضباطية والتي لم نجد لها أيضا حكم قانوني صريح في نفس القانون الانضباطي السابق عدا ما يمكن الاجتهاد به واستنتاجه من المحظورات الواجب على الموظف الابتعاد عنها وتجنبها فتكون سند قانوني من التمثيل بها تشريعيا لأغراض التشديد بالعقوبة أو من مخالفة الموظف لواجباته الإيجابية وغيرها من أحوال، ومن هذه الحالات للتشديد ارتكاب المخالفة بشكل عمدي أو يترتب عليها جريمة جنائية وحالة تعدد المخالفات الإدارية أو العودة بارتكاب نفس الفعل المخالف أو يترتب على المخالفة ضرر مالي جسيم على الإدارة أو الغير وغير ذلك.
ومما تقدم يمكن القول، إن السلطة التقديرية والمقيدة وان اختلفت بالمفاهيم إلا أن التداخل وارد بينهما في مجال فرض العقوبات الانضباطية وفي أعمال إدارية أخرى، وما يمكن تقييده من تصرفات إدارية يمكن أن يكون التقدير وارد في تفاصيله الأخرى بما ينسجم مع تحقيق المشروعية القانونية للعمل الإداري على ان لا يكون التقدير مخالفا لأحكام القانون في كل الأحوال وكما تم توضيح ذلك في أعلاه… ومن الله تعالى التوفيق.